المعاجم العربية- صدى الحضارة وتطور الفكر عبر التاريخ

المؤلف: خالد الجبر08.18.2025
المعاجم العربية- صدى الحضارة وتطور الفكر عبر التاريخ

من المسلّمات القول بأن بزوغ فكرة التأليف المعجمي لدى أي أمة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمسيرتها الحثيثة نحو التقدم والازدهار. والأدق من ذلك، هو أنّ الأمّة عندما تجد في صميمها مقوّمات القوة، والطاقات الكامنة التي تؤهلها لأن تتبوأ مكانة مرموقة في صرح الحضارة الإنسانية، مدعومةً بأركان أخرى من الاستقرار الاقتصادي، والنفوذ السياسي، والابتكار العلمي، حينها يكون لديها الدافع نحو التأليف المعجمي، وخلاف ذلك، فإنّ التأليف المعجمي ما هو إلا انعكاس للتأثر بالغير، ونتيجة للضعف الحضاري.

المعجمة والحالة الحضارية

ولتبيان ذلك، وجب التطرق إليه بشيء من التفصيل؛ فالحديث عن المعاجم ثنائية اللغة أو متعددة اللغات، له صلة وثيقة بالاستعارة والاقتباس والشعور بالقصور، وهيمنة لغة أو لغات بعينها على واقع الأمة، كما هو الحال مع سيطرة اللغة الإنجليزية في المشرق العربي، واللغة الفرنسية في المغرب العربي، كنتيجة لاتفاقية سايكس بيكو، وتقسيماتها، وحركة الاستعمار الحديث، إضافة إلى الجاذبية المحورية لأوروبا، من خلال انبثاق حركة علمية ونهضة صناعية عظيمة في عصر التنوير.

وقد ترتب على ذلك تبعات جمة ممتدة إلى يومنا هذا، في مجال التعليم، والفكر، والثقافة، بل في تقييم الخبرات، وتوظيف الكفاءات، والمكانة الاجتماعية، وغيرها من الجوانب التي ترسم ملامح الواقع العربي. إلا أنّ هذه المعاجم ثنائية اللغة قد تخدم أحيانًا مساعي أمة ما في التوسع والسيطرة، وتعزيز حركة التجارة، كما نجد في الكراسات المعجمية التي انتشرت في بريطانيا في فترة ما قبل تأليف معجم أكسفورد التاريخي للغة الإنجليزية، والتي كانت بمثابة أدلة إرشادية للبحارة والعسكريين الإنجليز في حركتهم الاستكشافية والتجارية والاستعمارية.

في المقابل، يمثل التأليف المعجمي في اللغة الأم، والذي يهدف إلى وصف اللغة بألفاظها، وتوضيح معانيها بمرادفاتها، قمة إحساس الأمة بفيض القوة، والثقة بالنفس، مما يؤهلها لوصف ذاتها، وتاريخها، وهويتها الثقافية والحضارية.

وهكذا كانت انطلاقة حركة التأليف المعجمي العربي بالعربية وللعربية. فجمع تراث العرب الأدبي واللغوي في القرن الهجري الثاني، كان وثيق الصلة باستعادة الأمة لعناصر قوتها ومكانتها سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، لبلوغ أقصى ما عرفوه آنذاك من الامتداد العمراني شرقًا إلى مشارف الصين، وشمالًا إلى أبخازيا وجورجيا، وغربًا إلى بحر الظلمات (المحيط الأطلسي)، وجنوبًا إلى قلب قارة أفريقيا.

لكن هذا التوسع الجغرافي كان مصحوبًا بحركة موازية من اتساع الآفاق العقلية والفكرية والثقافية، من خلال الاختلاط بالأمم الأخرى، الذي بدأ مبكرًا وشمل الهند وفارس والصين واليونان والروم والقبط والحبشة، وتبني قانون التعرب الثقافي لكل من يرغب في الاندماج في هذه النهضة. فكان على الراغب بتعلم لغة القوم، ومساكنتهم، والإسهام بقدر من المقادير في الحركة نفسها، حتى يكتسب مشروعية تحقيق ذاته مثل أبناء الأمة أنفسهم، وإن يكن الأمر بدأ بقانون (الولاء والموالاة والموالي) في فترة مبكرة.

وانطلاقًا من هذه الرؤية، بدأ التأليف المعجمي أولًا بتلك الرسائل التي جمعت كل منها ما تزخر به اللغة العربية في موضوع واحد، كالإبل، والشاء، والبئر، والنخل، وما شابه ذلك. إلا أنّ هذه الحركة الناهضة بلغت أوجها بفضل عبقرية الخليل بن أحمد الفراهيدي، عندما وضع الأسس لمعجم (العين)، فكان أول معجم عربي يظهر في نهايات القرن الهجري الثاني، معاصرًا لحركة التدوين، ومقدمة لدار الحكمة، ومنهلًا لا غنى عنه لحركة الترجمة عن سائر اللغات المعبرة عن حضارات أمم سبقت العرب في التأليف والعلوم. بل كان ذلك مرتبطًا بالتفكير بجلب الخبرات من تلك الأمم، كوفد (حكماء الهند) الذي استقدمه العباسيون، بمن فيهم سندباد (وقد ذكر الجاحظ حكاية هذا الوفد وأسماءهم).

حركة التأليف المُعجمي في اللغة العربية

على الرغم من اختلاف المناهج التي اتبعها المعجميون العرب على مر تاريخ التأليف المعجمي، بدءًا من (العين) للخليل بن أحمد الفراهيدي (175هـ) وصولًا إلى (تاج العروس) للمرتضى الزبيدي (1205هـ)، إلا أنّ لكل معجم من هذه المعاجم خصائصه الفريدة التي تميزه، سواء من حيث المنهجية في الترتيب، أو من حيث سعة المادة اللغوية أو ضيقها، أو من حيث التوجه نحو غاية معينة ومحددة، أو من حيث التركيز على المادة نفسها ألفاظًا ومعاني، أو من حيث استحضار الشواهد أو إهمالها، أو من حيث الاقتصار على الفصيح أو الانفتاح على الأعجمي واللغات العامية، وغير ذلك.

وهكذا، كان كل معجم يمثل إضافة نوعية هامة، وامتدادًا بأفق التأليف المعجمي إلى آفاق جديدة. وعلى هذا المنوال كانت المختصرات أيضًا.

إلا أنّ هذه المعاجم برمتها اهتمت بالألفاظ ومعانيها، وتمكن كل واحد منها من إيراد ألفاظ متعددة ومعان محددة، وفقًا للتجذير والاشتقاقات، وبحسب النسبة التي استحضرها كل معجمي من صلب اللغة العربية، والمقصود هنا هو صلب اللغة العربية الذي اطلع عليه المعجمي، سواء حفظه عن ظهر قلب، أو تمكن من جمعه من الكتب والمصنفات والرسائل. وفي أغلب الأحيان، فإنّ ما جمعه المعجمي يمثل نسبة ضئيلة من متن اللغة الكلي المثبت حفظًا في الأذهان، أو كتابة في الصحف، ولهذا فقد تجد في معجم ما لفظًا لا تجده في آخر، ومعنى للفظ لم يأت عليه آخر.

وعليه فلا تجد معجمًا منها استقصى ألفاظ اللغة العربية تمامًا، ولا استوعب معانيها بصورة كلية. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإنّ أيًا من هذه المعاجم لم يعنَ بترتيب ألفاظ اللغة العربية ترتيبًا تاريخيًا وفقًا لظهورها في الاستعمال (وهو ما يركز عليه المعجم التاريخي)، وذلك بهدف الكشف للقارئ عن السياقات التاريخية لتطور تلك الألفاظ، ومسيرة معانيها، مما يكشف عن تاريخية تطور الفكر لدى الأمة، وحضارتها، ومفاصل تكوين شخصيتها، وطبيعة التأثيرات والتأثرات التي خلفتها صلاتها بغيرها، وكأنما يرسم خارطة "ميتا-حضارية" لوجودها الممتد عبر التاريخ، والتحولات العقلية التي مرت بها.

محاولات ونماذج

ولتوضيح الفرق الشاسع بين المعجم والمعجم التاريخي، نسوق مثالًا لما أنجزه قسم اللغة العربية في جامعة النجاح الوطنية (نابلس-فلسطين)، حيث قام أساتذته وطلبة الماجستير فيه على مدار سنوات بإنجاز ما أسموه: المعجم الجامع أو جامع المعاجم. وتتلخص فكرته في قيام كل باحث بتقصي مادة معجمية، أو عدة مواد، في المعاجم العربية، مع إسناد كل جزئية من المادة إلى المعجمي الذي سبق إليها، وترتيب هذه الجزئيات بحسب ترتيب تلك المعاجم ومؤلفيها تاريخيًا.

وبذلك يتضح للقارئ ما أضافه كل معجمي إلى المادة، فيما يوهم بأنه تطور تاريخي للمادة المعجمية على مستويي الألفاظ والمعاني. وهي تجربة لها فوائدها بكل تأكيد، غير أنها تظل في سياق تطور الفكر التأليفي للمعجميين أنفسهم، دالة على سعة أو ضيق متن اللغة العربية الذي امتلكه كل منهم، وقدراته الذاتية على الإضافة والتعديل. وهي بذلك فكرة تقتصر على ما عالجه المعجميون، وتكشف عن تاريخيةٍ ما، هي ليست تاريخية اللغة العربية بالضرورة.

اتخذ معجم الدوحة التاريخيّ للغة العربية منهجية التأريخ بالسنة، منذ أقدم وثيقة عربية مكتوبة حتى العصر الحاضر، وهي منهجية شاقة، ومضنية، وتحتاج إلى جهد جبار في ضبط تواريخ وفيات أصحاب الشواهد، والقرآن الكريم، والحديث الشريف، فضلا عن تواريخ التأليف إذا وجدت

وقد يكون من الضروري وصف تجربة أخرى أنجزها اتحاد المجامع العربية بقيادة مجمع اللغة العربية في مصر، وهي تجربة (المُعجم الكبير)، الذي صدر جزؤه الخامس عشر المتضمن حرف الصاد مؤخراً سنة 2022، في حين بدأ تأليفه سنة 1970م. المعجم الكبير معجم موسوعي شامل، يشتمل على ألفاظ اللغة، وأسماء الأعلام، والمعرب، والدخيل، والمصطلحات، وتتضمن المادة فيه معلومات صوتية وصرفية ونحوية وبلاغية وتأثيلية (علم أصول الكلمات)، وشروحًا لمعاني ألفاظ ترد في سياقات الشواهد.

وهو في ذلك كله يورد شواهد ما وجد إلى ذلك سبيلا، أو يورد أقوال المعجميين العرب، والمصنفين في المعرب والدخيل، ويرسم الألفاظ الأعجمية ومقابلاتها في اللغات الأخرى أحيانًا كثيرة. غير أنه غير معني إطلاقًا بترتيب المادة ترتيبًا تاريخيًا، وإن كان يستقصي الألفاظ والاشتقاقات والمعاني. وعلى الرغم من فضائل هذا المعجم، فإنّ المعجم التاريخيّ للغة ما هو حالة مختلفة تمامًا عن هذا.

المعجم التاريخي ومنهجيات التأريخ

لا يوجد للتاريخ حضور مؤثر في المعاجم اللغوية العامة، إلا بمقدار ما أشرنا إليه آنفًا، وهو حضور خجول؛ إذ هو غير ملح، وغير ضروري لبناء المادة المعجمية. هذا مع التنويه بأن أي معجمي يسعى لحصر معاني اللفظ سيبدأ -بتأثير ثقافته المبنية على العصور التاريخية للأدب العربي (المادة الأساسية لمتن اللغة العربية)- بتتبع تلك المعاني من منظور تاريخي، وهو ما رسخه المنهج التاريخي في دراسة اللغة والأدب، والبحوث الأكاديمية، والرسائل العلمية، من النظر في الألفاظ المكونة لعناوين الدراسات من الجهتين: اللغوية، ثم الاصطلاحية، وهاتان تجسدان وجهة تاريخية في البيان عن المعاني.

لكن مقولة التاريخ في المعجم التاريخي هي أساسية، بل هي المقولة الجوهرية فيه بعد التأكد من صحة اللفظ والمعنى، إذ لا أهمية لمعلومة التاريخ إذا كان اللفظ مصحفًا أو محرفًا، ولا قيمة لها إذا كان المعنى المحدد للفظ غير صحيح. هذا إذا كان من منهجية المعجم بناؤه على الشواهد. وعليه، فلا بد من صحة اللفظ، وصحة المعنى، فإذا اقترن الشاهد بمعلومة تاريخية صحيحة تم للمدخل المعجمي قدر من الصواب عال، ولا يهز تلك الصوابية إلا ظهور شاهد للفظ على ذلك المعنى أسبق.

وقد تنوعت منهجيات التأريخ في المعاجم التاريخية وفق تصوراتها المنهجية، فمعجم أكسفورد مثلًا اتخذ لنفسه منهجية التأريخ بالقرون، واتخذ المعجم التاريخي للّغة العربية (الشارقة) منهجية التأريخ بالعصور السياسية (وهي في الأصل مبنية على تقسيم الدكتور شوقي ضيف ومجايليه لعصور الأدب العربي: العصر الجاهلي حتى ما قبل الهجرة، العصر الإسلامي والأموي حتى قيام الدولة العباسية سنة 132هـ، العصر العباسي الممتد حتى سقوط بغداد سنة 656هـ، ثم الزمن الممتد حتى العصر الحاضر بما يشمل عصور المماليك والعثمانيين والاستعمار والنهضة).

في حين اتخذ معجم الدوحة التاريخيّ للغة العربية منهجية التأريخ بالسنة، منذ أقدم وثيقة عربية مكتوبة حتى العصر الحاضر، وهي منهجية شاقة، ومضنية، وتحتاج إلى جهد جبار في ضبط تواريخ وفيات أصحاب الشواهد، والقرآن الكريم، والحديث الشريف، فضلًا عن تواريخ التأليف إذا وجدت.

وهذه المنهجية هي الأدق والأصعب في الوقت ذاته، وهي تكشف في كثير من الأحيان عن تعايش سائر معاني اللفظ الواحد في حقبة زمنية واحدة، بل وظهور تلك المعاني عند المستعمل نفسه في عدد من شواهده، وعليه يتعذر البناء الصحيح لتولد معاني الألفاظ في التاريخ إلا بهذه المنهجية، نقول: تولد المعاني، مع إمكانية تعايش الأسبق منها مع ما يليه، وفي بعض الأحيان يخْبُو المعنى الأسبق، ويسود معنى جديد ناشئ. وهذا كله رهن ظهور انزياح في دلالة اللفظ عن دلالته الأولى في استعمال أحد الناطقين باللغة مما أثبتته المصادر.

وختامًا، يمكن القول إنّ ضبط مقولة التاريخ في أي معجم تاريخي يظل مرهونًا بتحقيق مستوى عال من الدقة في تطبيق المنهجية المعتمدة (قد يتذكّر من شاهد فيلم البروفيسور والمجنون عن معجم أكسفورد المحنة التي وقع فيها القائمون عليه وهم يبحثون عن معنى لفظ لم يجدوا عليه شاهدًا في قرن من القرون). حينها تصبح مقولة التاريخ المنضبطة هي عماد الترتيب في المادة المعجمية، فتتوالى ألفاظ المادة ومعانيها مرتبة ترتيبًا تاريخيًا منذ أقدم ظهور للفظ فيها، إلى آخر ظهور للفظ منها بمعنى من المعاني.

وهو ما يتيح لأي دارس أن يستكشف تطور حركتي المبنى والمعنى عبر التاريخ، واستنباط العلاقات المتبادلة بين حركتيهما وفي الحركة الحضارية للأمة على مدار وجودها. فالمعجم التاريخي المنضبط المنهجية يمكن أن يكون مرآة حقيقية مستوية تعكس حركة الأمة داخليًا، في فكرها وأطوار تفكيرها بذاتها وبالوجود من حولها، وخارجيًا في علاقاتها بالأمم الأخرى، وأطوار نشأتها وفتوتها وشيخوختها، ونقاط التحولات العميقة في وجدانِها وعقلها، وانبثاق تفكيرِها العلمي، وامتدادِها في آفاق التدافع والانكماش، والنهوض والانحدار. فحركة اللّغة هي انعكاس لحركة الأمة، مع أنّ منطق اللغة يختلف عن منطق المتحدثين بها.

هذا من جانب، ومن الآخر، فثمة افتراض قائم على أن المعجم التاريخيّ للغة ما ينبغي أن يحتشد بجمع مدونة تستقصي متن اللغة في كل العصور، وفقَ المنهجيّة التّأريخيّة التي يتخذها لنفسه. وهذا التصور يقود لا محالةَ إلى افتراض آخر ينبني عليه، مفاده: إن المعجم التاريخيّ يتوفر على نسبة من متن اللغة لم يتهيأ لمُعجَمي آخر من قبل، ويستتبع ذلك أن تكون المادّة المعجمية في المعجم التاريخي أكمل وأشمل وأدق من نَظيراتها في المعاجم غير التاريخية، سواء في اكتمالِ المباني، أو اكتمال المعاني.

ولعل هذا الجانب وثيق الصلة بالكشف عن واقعِ اللُّغة الحقيقي؛ سعَتها وثرائها من ضيقها وفقرها، قابليتها للانفتاح على اللُّغات الأُخرى من انغلاقها على ذاتِها، قُدرتِها الذاتية على التطور والنمو والحَياة مِن عجزها عن الامتداد في التاريخ وضمورها وموتها، امتلاكِها لعناصر التوليد من عقمها، قوتها في مواجهة الصدمات الحضارية من ضعفها وانهيارها أمام أي صدمة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة